فصل: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْخَدَرَانِ الْكُلّيّ الّذِي يَجْمُدُ مَعَهُ الْبَدَنُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ النّفْعِ بِهِ:

وَيَجُوزُ نَفْعُ التّمْرِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ السّمُومِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوصِ وَيَجُوزُ نَفْعُهُ لِخَاصّيّةِ تِلْكَ الْبَلَدِ وَتِلْكَ التّرْبَةِ الْخَاصّةِ مِنْ كُلّ سَمّ وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ لَابُدّ مِنْ بَيَانِهِ وَهُوَ أَنّ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولَهُ وَاعْتِقَادَ النّفْعِ بِهِ فَتَقْبَلُهُ الطّبِيعَةُ فَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ حَتّى إنّ كَثِيرًا مِنْ الْمُعَالَجَاتِ يَنْفَعُ بِالِاعْتِقَادِ وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَكَمَالِ التّلَقّي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ وَهَذَا لِأَنّ الطّبِيعَةَ يَشْتَدّ قَبُولُهَا لَهُ وَتَفْرَحُ النّفْسُ بِهِ فَتَنْتَعِشُ الْقُوّةُ وَيَقْوَى سُلْطَانُ الطّبِيعَةِ وَيَنْبَعِثُ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيُسَاعِدُ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَبِالْعَكْسِ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَدْوِيَةِ نَافِعًا لِتِلْكَ الْعِلّةِ فَيَقْطَعُ عَمَلَهُ سُوءُ اعْتِقَادِ الْعَلِيلِ فِيهِ وَعَدَمُ أَخْذِ الطّبِيعَةِ لَهُ بِالْقَبُولِ فَلَا يُجْدِي عَلَيْهَا شَيْئًا. وَاعْتَبَرَ هَذَا بِأَعْظَمِ دَاءٍ كَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْقُلُوبَ الّتِي لَا تَعْتَقِدُ فِيهِ الشّفَاءَ وَالنّفْعَ بَلْ لَا يَزِيدُهَا إلّا مَرَضًا إلَى مَرَضِهَا وَلَيْسَ لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ دَوَاءٌ قَطّ أَنْفَعُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ شِفَاؤُهَا التّامّ الْكَامِلُ الّذِي لَا يُغَادِرُ فِيهَا سَقَمًا إلّا أَبْرَأَهُ وَيَحْفَظُ عَلَيْهَا صِحّتَهَا الْمُطْلَقَةَ وَيَحْمِيهَا الْحَمِيّةَ التّامّةَ مِنْ كُلّ مُؤْذٍ وَمُضِرّ وَمَعَ هَذَا فَإِعْرَاضُ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ عَنْهُ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهَا الْجَازِمِ الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنّهُ كَذَلِكَ وَعَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْأَدْوِيَةِ الّتِي رَكّبَهَا بَنُو جِنْسِهَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّفَاءِ بِهِ وَغَلَبَتْ الْعَوَائِدُ وَاشْتَدّ الْإِعْرَاضُ وَتَمَكّنَتْ الْعِلَلُ وَالْأَدْوَاءُ الْمُزْمِنَةُ مِنْ الْقُلُوبِ وَتَرَبّى الْمَرْضَى وَالْأَطِبّاءُ عَلَى عِلَاجِ بَنِي جِنْسِهِمْ وَمَا وَضَعَهُ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ وَمَنْ يُعَظّمُونَهُ وَيُحْسِنُونَ بِهِ ظُنُونَهُمْ فَعَظُمَ الْمُصَابُ وَاسْتَحْكَمَ الدّاءُ وَتَرَكّبَتْ أَمْرَاضٌ وَعِلَلٌ أَعْيَا عَلَيْهِمْ عِلَاجُهَا وَكُلّمَا عَالَجُوهَا بِتِلْكَ الْعِلَاجَاتِ الْحَادِثَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَقَوِيَتْ وَلِسَانُ الْحَالِ يُنَادِي عَلَيْهِمْ:
وَمِنْ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمّةٌ ** قُرْبُ الشّفَاءِ وَمَا إلَيْهِ وُصُولُ

كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظّمَأُ ** وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي دَفْعِ ضَرَرِ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَإِصْلَاحِهَا بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهَا وَيُقَوّي نَفْعَهَا:

ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ الرّطَبَ بِالْقِثّاءِ وَالرّطَبُ حَارّ رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ الْبَارِدَةَ وَيُوَافِقُهَا وَيَزِيدُ فِي وَمُضِرّ بِالْأَسْنَانِ وَالْقِثّاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ مُسَكّنٌ لِلْعَطَشِ مُنْعِشٌ لِلْقُوَى بِشَمّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِطْرِيّةِ مُطْفِئٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ وَإِذَا جُفّفَ بِزْرُهُ وَدُقّ وَاسْتُحْلِبَ بِالْمَاءِ وَشُرِبَ سَكّنَ الْعَطَشَ وَأَدَرّ الْبَوْلَ وَنَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْمَثَانَةِ. وَإِذَا دُقّ وَنُخِلَ وَدُلِكَ بِهِ الْأَسْنَانُ جَلَاهَا وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ مَعَ الميبختج نَفَعَ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا حَارّ وَهَذَا بَارِدٌ وَفِي كُلّ مِنْهُمَا صَلَاحُ الْآخَرِ وَإِزَالَةٌ لِأَكْثَرِ ضَرَرِهِ وَمُقَاوَمَةُ كُلّ كَيْفِيّةٍ بِضِدّهَا وَدَفْعِ سُورَتِهَا بِالْأُخْرَى وَهَذَا أَصْلُ الْعِلَاجِ كُلّهِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ بَلْ عِلْمُ الطّبّ كُلّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا. وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إصْلَاحٌ لَهَا وَتَعْدِيلٌ وَدَفْعٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَيْفِيّاتِ الْمُضِرّةِ لِمَا يُقَابِلُهَا وَفِي ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى صِحّةِ الْبَدَنِ وَقُوّتِهِ وَخَصْبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: سَمّنُونِي بِكُلّ شَيْءٍ فَلَمْ أَسْمَنْ فَسَمّنُونِي بِالْقِثّاءِ وَالرّطَبِ فَسَمِنْت. وَبِالْجُمْلَةِ فَدَفْعُ ضَرَرِ الْبَارِدِ بِالْحَارّ وَالْحَارّ بِالْبَارِدِ وَالرّطَبِ بِالْيَابِسِ وَالْيَابِسِ بِالرّطَبِ وَتَعْدِيلُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجَاتِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَنَظِيرُ هَذَا مَا تَقَدّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِالسّنَا وَالسّنّوتِ وَهُوَ الْعَسَلُ الّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ السّمْنِ يَصْلُحُ بِهِ السّنَا وَيُعْدِلُهُ فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بُعِثَ بِعِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَبِمَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحِمْيَةِ:

الدّوَاءُ كُلّهُ شَيْئَانِ حِمْيَةٌ وَحِفْظُ صِحّةٍ. فَإِذَا وَقَعَ التّخْلِيطُ اُحْتِيجَ إلَى الطّبّ كُلّهِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثّلَاثَةِ. وَالْحِمْيَةُ: حِمْيَتَانِ حِمْيَةٌ عَمّا يَجْلِبُ الْمَرَضَ وَحِمْيَةٌ عَمّا يَزِيدُهُ فَيَقِفُ عَلَى حَالِهِ فَالْأَوّلُ حِمْيَةُ الْأَصِحّاءِ.
وَالثّانِيَةُ حِمْيَةُ الْمَرْضَى فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا احْتَمَى وَقَفَ مَرَضُهُ عَنْ التّزَايُدِ وَأَخَذَتْ الْقُوَى فِي دَفْعِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحِمْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا} [النّسَاءِ 43 الْمَائِدَةِ 6] فَحَمَا الْمَرِيضَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنّهُ يَضُرّهُ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْ أُمّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ عَلِيّ وَعَلِيّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ وَلَنَا دَوَالِي مُعَلّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَامَ عَلِيّ يَأْكُلُ مِنْهَا فَطَفِقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ: إنّك نَاقِهٌ حَتّى كَفّ. قَالَتْ وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْت بِهِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ: مِنْ هَذَا أَصِبْ فَإِنّهُ أَنْفَعُ لَكَ وَفِي لَفْظٍ فَقَالَ مِنْ هَذَا فَأَصِبْ فَإِنّهُ أَوْفَقُ لَكَ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ اُدْنُ فَكُلْ فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْت فَقَالَ أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ؟ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْضَغُ مِنْ النّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي حَدِيثٍ مَحْفُوظٍ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ إذَا أَحَبّ عَبْدًا حَمَاهُ مِنْ الدّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفِي لَفْظٍ إنّ اللّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدّنْيَا الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءُ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ فَهَذَا الْحَدِيثُ إنّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ طَبِيبِ الْعَرَبِ وَلَا يَصِحّ رَفْعُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ. وَيُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْمَعِدَةَ حَوْضُ الْبَدَنِ وَالْعُرُوقُ إلَيْهَا وَارِدَةٌ فَإِذَا صَحّتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالصّحّةِ وَإِذَا سَقِمَتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالسّقَمِ وَقَالَ الْحَارِثُ رَأْسُ الطّبّ الْحِمْيَةُ وَالْحِمْيَةُ عِنْدَهُمْ لِلصّحِيحِ فِي الْمَضَرّةِ بِمَنْزِلَةِ التّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنّاقِهِ وَأَنْفَعُ مَا تَكُونُ الْحِمْيَةُ لِلنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنّ طَبِيعَتَهُ لَمْ تَرْجِعْ بَعْدُ إلَى قُوّتِهَا وَالْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ ضَعِيفَةٌ وَالطّبِيعَةُ قَابِلَةٌ وَالْأَعْضَاءُ مُسْتَعِدّةٌ فَتَخْلِيطُهُ يُوجِبُ انْتِكَاسَهَا وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ. وَاعْلَمْ أَنّ فِي مَنْعِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الدّوَالِي وَهُوَ نَاقِهٌ أَحْسَنُ التّدْبِيرِ فَإِنّ الدّوَالِيَ أَقْنَاءٌ مِنْ الرّطَبِ تُعَلّقُ فِي الْبَيْتِ لِلْأَكْلِ بِمَنْزِلَةِ عَنَاقِيدِ الْعِنَبِ وَالْفَاكِهَةِ تَضُرّ بِالنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا وَضَعْفِ الطّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا فَإِنّهَا لَمْ تَتَمَكّنْ بَعْدُ مِنْ قُوّتِهَا وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِدَفْعِ آثَارِ الْعِلّةِ وَإِزَالَتِهَا مِنْ الْبَدَنِ. وَفِي الرّطَبِ خَاصّةً نَوْعُ ثِقَلٍ عَلَى الْمَعِدَةِ فَتَشْتَغِلُ بِمُعَالَجَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ عَمّا هِيَ بِصَدَدِهِ مِنْ إزَالَةِ بَقِيّةِ الْمَرَضِ وَآثَارِهِ فَإِمّا أَنْ تَقِفَ تِلْكَ الْبَقِيّةُ وَإِمّا وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ السّلْقَ وَالشّعِيرَ أَمَرَهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ فَإِنّهُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَغْذِيَةِ لِلنّاقِهِ فَإِنّ فِي مَاءِ الشّعِيرِ مِنْ التّبْرِيدِ وَالتّغْذِيَةِ وَالتّلْطِيفِ وَالتّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطّبِيعَةِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلنّاقِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا طُبِخَ بِأُصُولِ السّلْقِ فَهَذَا مِنْ أَوْفَقِ الْغِذَاءِ لِمَنْ فِي مَعِدَتِهِ ضَعْفٌ وَلَا يَتَوَلّدُ عَنْهُ مِنْ الْأَخْلَاطِ مَا يُخَافُ مِنْهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حَمَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرِيضًا لَهُ حَتّى إنّهُ مِنْ شِدّةِ مَا حَمَاهُ كَانَ يَمُصّ النّوَى. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحِمْيَةُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ قَبْلَ الدّاءِ فَتَمْنَعُ حُصُولَهُ وَإِذَا حَصَلَ فَتَمْنَعُ تَزَايُدَهُ وَانْتِشَارَهُ.

.فصل لَا حَرَجَ فِي تَنَاوُلِ الْإِنْسَانِ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا:

وَمِمّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ كَثِيرًا مِمّا يُحْمَى عَنْهُ الْعَلِيلُ وَالنّاقِهُ وَالصّحِيحُ إذَا اشْتَدّتْ الشّهْوَةُ إلَيْهِ وَمَالَتْ إلَيْهِ الطّبِيعَةُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الشّيْءَ الْيَسِيرَ الّذِي لَا تَعْجِزُ الطّبِيعَةُ عَنْ هَضْمِهِ لَمْ يَضُرّهُ تَنَاوُلُهُ بَلْ رُبّمَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنّ الطّبِيعَةَ وَالْمَعِدَةَ تَتَلَقّيَانِهِ بِالْقَبُولِ وَالْمَحَبّةِ فَيُصْلِحَانِ مَا يُخْشَى مِنْ ضَرَرِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ تَنَاوُلِ مَا تَكْرَهُهُ الطّبِيعَةُ وَتَدْفَعُهُ مِنْ الدّوَاءِ وَلِهَذَا أَقَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبًا وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التّمَرَاتِ الْيَسِيرَةِ وَعَلِمَ أَنّهَا لَا تَضُرّهُ وَمِنْ هَذَا مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيّ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَرْمَدُ وَبَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْرٌ يَأْكُلُهُ فَقَالَ يَا عَلِيّ تَشْتَهِيهِ؟ وَرَمَى إلَيْهِ بِتَمْرَةٍ ثُمّ بِأُخْرَى حَتّى رَمَى إلَيْهِ سَبْعًا ثُمّ قَالَ حَسْبُكَ يَا عَلِيّ. وَمِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ مَا تَشْتَهِي؟ فَقَالَ أَشْتَهِي خُبْزَ بُرّ. وَفِي لَفْظٍ أَشْتَهِي كَعْكًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرّ فَلْيَبْعَثْ إلَى أَخِيهِ ثُمّ قَالَ إذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ سِرّ طِبّيّ لَطِيفٌ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ طَبِيعِيّ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا كَانَ أَنْفَعَ وَأَقَلّ ضَرَرًا مِمّا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي نَفْسِهِ فَإِنّ صِدْقَ شَهْوَتِهِ وَمَحَبّةَ الطّبِيعَةِ يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَبُغْضَ الطّبِيعَةِ وَكَرَاهَتَهَا لِلنّافِعِ قَدْ يَجْلِبُ لَهَا مِنْهُ ضَرَرًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللّذِيذُ الْمُشْتَهَى تُقْبِلُ الطّبِيعَةُ عَلَيْهِ بِعِنَايَةٍ فَتَهْضِمُهُ عَلَى أَحْمَدِ الْوُجُوهِ سِيّمَا عِنْدَ انْبِعَاثِ النّفْسِ إلَيْهِ بِصِدْقِ الشّهْوَةِ وَصِحّةِ الْقُوّةِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الرّمَدِ بِالسّكُونِ وَالدّعَةِ وَتَرْكِ الْحَرَكَةِ وَالْحِمْيَةِ مِمّا يَهِيجُ الرّمَدَ:

وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمَا صُهَيْبًا مِنْ التّمْرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَكْلَهُ وَهُوَ أَرْمَدُ وَحَمَا عَلِيّا مِنْ الرّطَبِ لَمّا أَصَابَهُ الرّمَدُ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطّبّ النّبَوِيّ: أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا رَمِدَتْ عَيْنُ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يَأْتِهَا حَتّى تَبْرَأَ عَيْنُهَا.

.حَقِيقَةُ الرّمَدِ:

الرّمَدُ وَرَمٌ حَارّ يَعْرِضُ فِي الطّبَقَةِ الْمُلْتَحِمَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ بَيَاضُهَا الظّاهِرُ وَسَبَبُهُ انْصِبَابُ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ رِيحٌ حَارّةٌ تَكْثُرُ كَمّيّتُهَا فِي الرّأْسِ وَالْبَدَنِ فَيَنْبَعِثُ مِنْهَا قِسْطٌ إلَى جَوْهَرِ الْعَيْنِ أَوْ ضَرْبَةٌ تُصِيبُ الْعَيْنَ فَتُرْسِلُ الطّبِيعَةُ إلَيْهَا مِنْ الدّمِ وَالرّوحِ مِقْدَارًا كَثِيرًا تَرُومُ بِذَلِكَ شِفَاءَهَا مِمّا عَرَضَ لَهَا وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَرِمُ الْعُضْوَ الْمَضْرُوبَ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ ضِدّهُ. وَاعْلَمْ أَنّهُ كَمَا يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ إلَى الْجَوّ بُخَارَانِ أَحَدُهُمَا: حَارّ يَابِسٌ وَالْآخَرُ حَارّ رَطْبٌ فَيَنْعَقِدَانِ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا وَيَمْنَعَانِ أَبْصَارَنَا مِنْ إدْرَاكِ السّمَاءِ فَكَذَلِكَ يَرْتَفِعُ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ إلَى مُنْتَهَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَيَمْنَعَانِ النّظَرَ وَيَتَوَلّدُ عَنْهُمَا عِلَلٌ شَتّى فَإِنْ قَوِيَتْ الطّبِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَدَفَعَتْهُ إلَى الْخَيَاشِيمِ أَحْدَثَ الزّكَامَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى اللّهَاةِ وَالْمَنْخِرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَاقَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْجَنْبِ أَحْدَثَ الشّوْصَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الصّدْرِ أَحْدَثَ النّزْلَةَ وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الْخَبْطَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْعَيْنِ أَحْدَثَ رَمَدًا وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْجَوْفِ أَحْدَثَ السّيَلَانَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى مَنَازِلِ الدّمَاغِ أَحْدَثَ النّسْيَانَ وَإِنْ تَرَطّبَتْ أَوْعِيَةُ الدّمَاغِ مِنْهُ وَامْتَلَأَتْ بِهِ عُرُوقُهُ أَحْدَثَ النّوْمَ الشّدِيدَ وَلِذَلِكَ كَانَ النّوْمُ رَطْبًا وَالسّهَرُ يَابِسًا. وَإِنْ طَلَبَ الْبُخَارُ النّفُوذَ مِنْ الرّأْسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ الصّدَاعُ وَالسّهَرُ وَإِنْ مَالَ الْبُخَارُ إلَى أَحَدِ شِقّيْ الرّأْسِ أَعْقَبَهُ الشّقِيقَةُ وَإِنْ مَلَكَ قِمّةَ الرّأْسِ وَوَسَطَ الْهَامَةِ أَعْقَبَهُ دَاءُ الْبَيْضَةِ وَإِنْ بَرُدَ مِنْهُ حِجَابُ الدّمَاغِ أَوْ سَخُنَ أَوْ تَرَطّبَ وَهَاجَتْ مِنْهُ أَرْيَاحٌ أَحْدَثَ الْعُطَاسَ وَإِنْ أَهَاجَ الرّطُوبَةَ الْبَلْغَمِيّةَ فِيهِ حَتّى غَلَبَ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ أَحْدَثَ الْإِغْمَاءَ وَالسّكَاتَ وَإِنْ أَهَاجَ الْمِرّةَ السّوْدَاءَ حَتّى أَظْلَمَ هَوَاءُ الدّمَاغِ أَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ وَإِنْ فَاضَ ذَلِكَ إلَى مَجَارِي الْعَصَبِ أَحْدَثَ الصّرَعَ الطّبِيعِيّ وَإِنْ تَرَطّبَتْ مَجَامِعُ عَصَبِ الرّأْسِ وَفَاضَ ذَلِكَ فِي مَجَارِيهِ أَعْقَبَهُ الْفَالِجُ وَإِنْ كَانَ الْبُخَارُ مِنْ مِرّةٍ صَفْرَاءَ مُلْتَهِبَةٍ مَحْمِيّةٍ لِلدّمَاغِ أَحْدَثَ الْبِرْسَامَ فَإِنْ شَرِكَهُ الصّدْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ سِرْسَامًا فَافْهَمْ هَذَا الْفَصْلَ.

.عِلّةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِمَاعِ حَالَ الرّمَدِ:

وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَخْلَاطَ الْبَدَنِ وَالرّأْسِ تَكُونُ مُتَحَرّكَةً هَائِجَةً فِي حَالِ الرّمَدِ وَالْجِمَاعُ مِمّا يَزِيدُ حَرَكَتَهَا وَثَوَرَانَهَا فَإِنّهُ حَرَكَةٌ كُلّيّةٌ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالطّبِيعَةِ. فَأَمّا الْبَدَنُ فَيَسْخُنُ بِالْحَرَكَةِ لَا مَحَالَةَ وَالنّفْسُ تَشْتَدّ حَرَكَتُهَا طَلَبًا لِلّذّةِ وَاسْتِكْمَالِهَا أَوّلَ تَعَلّقِ الرّوحِ مِنْ الْبَدَنِ بِالْقَلْبِ وَمِنْهُ يَنْشَأُ الرّوحُ وَتَنْبَثّ فِي الْأَعْضَاءِ. وَأَمّا حَرَكَةُ الطّبِيعَةِ فَلِأَجْلِ أَنْ تُرْسِلَ مَا يَجِبُ إرْسَالُهُ مِنْ الْمَنِيّ عَلَى الْمِقْدَارِ الّذِي يَجِبُ إرْسَالُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِمَاعُ حَرَكَةٌ كُلّيّةٌ عَامّةٌ يَتَحَرّكُ فِيهَا الْبَدَنُ وَقُوَاهُ وَطَبِيعَتُهُ وَأَخْلَاطُهُ وَالرّوحُ وَالنّفْسُ فَكُلّ حَرَكَةٍ فَهِيَ مُثِيرَةٌ لِلْأَخْلَاطِ مُرَقّقَةٌ لَهَا تُوجِبُ دَفْعَهَا وَسَيَلَانَهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الضّعِيفَةِ وَالْعَيْنُ فِي حَالِ رَمَدِهَا أَضْعَفُ مَا تَكُونُ فَأَضَرّ مَا عَلَيْهَا حَرَكَةُ الْجِمَاعِ. قَالَ بُقْرَاطُ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ: وَقَدْ يَدُلّ رُكُوبُ السّفُنِ أَنّ الْحَرَكَةَ تُثَوّرُ الْأَبْدَانَ. هَذَا مَعَ أَنّ فِي الرّمَدِ مَنَافِعَ كَثِيرَةً مِنْهَا مَا يَسْتَدْعِيهِ مِنْ الْحِمْيَةِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَتَنْقِيَةِ الرّأْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ فَضَلَاتِهِمَا وَعُفُونَاتِهِمَا وَالْكَفّ عَمّا يُؤْذِي النّفْسَ وَالْبَدَنَ مِنْ الْغَضَبِ وَالْهَمّ وَالْحُزْنِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَنِيفَةِ وَالْأَعْمَالِ الشّاقّةِ. وَفِي أَثَرٍ سَلَفِيّ لَا تَكْرَهُوا الرّمَدُ فَإِنّهُ يَقْطَعُ عُرُوقَ الْعَمَى. وَمِنْ أَسْبَابِ عِلَاجِهِ مُلَازَمَةُ السّكُونِ وَالرّاحَةِ وَتَرْكُ مَسّ الْعَيْنِ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا فَإِنّ أَضْدَادَ ذَلِكَ يُوجِبُ انْصِبَابَ الْمَوَادّ إلَيْهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَثَلُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مَثَلُ الْعَيْنِ وَدَوَاءُ الْعَيْنِ تَرْكُ مَسّهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ اللّهُ أَعْلَمُ بِهِ عِلَاجُ الرّمَدِ تَقْطِيرُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ لِلرّمَدِ الْحَارّ فَإِنّ الْمَاءَ دَوَاءٌ بَارِدٌ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى إطْفَاءِ حَرَارَةِ الرّمَدِ إذَا كَانَ حَارّا وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِامْرَأَتِهِ زَيْنَبَ وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا: لَوْ فَعَلْتِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ خَيْرًا لَك وَأَجْدَرَ أَنْ تُشْفِيَ تَنْضَحِينَ فِي عَيْنِك الْمَاءَ ثُمّ تَقُولِينَ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا وَهَذَا مِمّا تَقَدّمَ مِرَارًا أَنّهُ خَاصّ بِبَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ أَوْجَاعِ الْعَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ كَلَامُ النّبُوّةِ الْجُزْئِيّ الْخَاصّ كُلّيّا عَامّا وَلَا الْكُلّيّ الْعَامّ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْخَدَرَانِ الْكُلّيّ الّذِي يَجْمُدُ مَعَهُ الْبَدَنُ:

ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّ قَوْمًا مَرّوا بِشَجَرَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَكَأَنّمَا مَرّتْ بِهِمْ رِيحٌ فَأَجْمَدَتْهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرّسُوا الْمَاءَ فِي الشّنَانِ وَصُبّوا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَرّسُوا: يَعْنِي بَرّدُوا. وَقَوْلُ النّاسِ قَدْ قَرَسَ الْبَرْدُ إنّمَا هُوَ مِنْ هَذَا بِالسّينِ لَيْسَ بِالصّادِ. وَالشّنَانُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ الْخُلْقَانِ يُقَالُ لِلسّقَاءِ شَنّ وَلِلْقِرْبَةِ شَنّةٌ. وَإِنّمَا ذَكَرَ الشّنَانَ دُونَ الْجُدُدِ لِأَنّهَا أَشَدّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ. وَقَوْلُهُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ يَعْنِي أَذَانَ الْفَجْرِ وَالْإِقَامَةَ فَسَمّى الْإِقَامَةَ أَذَانًا انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا الْعِلَاجُ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَفْضَلِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ إذَا كَانَ وُقُوعُهُ بِالْحِجَازِ وَهِيَ بِلَادٌ حَارّةٌ يَابِسَةٌ وَالْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ سُكّانِهَا وَصَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ- وَهُوَ أَبْرَدُ أَوْقَاتِ الْيَوْمَ- يُوجِبُ جَمْعَ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ الْمُنْتَشِرِ فِي الْبَدَنِ الْحَامِلِ لِجَمِيعِ قُوَاهُ فَيُقَوّي الْقُوّةَ الدّافِعَةَ وَيَجْتَمِعُ مِنْ أَقْطَارِ الْبَدَنِ إلَى بَاطِنِهِ الّذِي هُوَ مَحَلّ ذَاكَ الدّاءِ وَيَسْتَظْهِرُ بِبَاقِي الْقُوَى عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَوْ أَنّ بُقْرَاطَ أَوْ جالينوس أَوْ غَيْرَهُمَا وَصَفَ هَذَا الدّوَاءَ لِهَذَا الدّاءِ لَخَضَعَتْ لَهُ الْأَطِبّاءُ وَعَجِبُوا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ.